موقع الشاعر منصور محمد دماس مذكور

 

1

ثمار الخير

إنه زمن الأسئلة

الدكتور/ إبراهيم بن عبد الرحمن التركي

(1)
** روى (جان بول سارتر) أنّ شاباً فرنسياً سأله: أيُحارب مع الجيش الفرنسي أم يبرّ بوالدته التي يعولُها؟، فأجابه الفيلسوف: أن اذهبْ إلى مخدعك ونَمْ، فإذا استيقظتَ في الصباح وأنت إلى جانب أمك فأنت تفضلها على الحرب وعلى الوطن، وإن وجدت نفسك متهيئاً للخروج والقتال فقد اتخذت قرارك الحاسم بالانضمام للمدافعين عن البلاد، ووضعت أمّك في المكان الثاني..!
(2)
** لو عرف (سارتر) صلاة الاستخارة لربما أشار بها، ولو أدرك مغزى الأثر الشريف: (استفتِ قلبك) لاختصر إجابته فيها، ولو تأملنا فيها كلها لأدركنا أن النصائح المباشرة التي تمتلئ بها أدبياتُنا الخطابية وممارساتُنا العملية أقلُّ تأثيراً من الإيحاء الذاتيّ المرتكز على المقارنة والمقاربة والتفكير الهادئ العميق..!
** وإذا كان (الإثم) -في التعريف النبوي الكريم - هو ما حاك في النفس وكره المرءُ أن يطّلع عليه الناس؛ فإن هذا المعيار الرقابيّ الداخليّ كفيلٌ بتعرية الوجع المُمض الذي يشعر به المذنب بحقِّ نفسه أو غيره، لتجيئ المواجهة الواعية بالإقلاع الفوري، والعزمِ على عدم العودة، والالتجاءِ إلى الله بالاستذكار والاستغفار..!
** لن يكون الرقيب الخارجيّ المتسلطُ على الناس لأمرهم ونهيهم الأهمَّ في التنظيم السلوكي المجتمعي، كما أن متابعة العورات والعثرات، والتشهير بها، والمتاجرة بالبكاء على القيم بسببها منهجٌ لا يستقيمُ مع الفطرة الإسلامية السوية التي تؤصِّل لثقافة التعامل مع (الذَّنْب) - بوصفه طبيعة بشرية -، وتعالج - وفق هذا المفهوم - الأحاسيس القاتمة المليئة بعُقد (الخوف) و(النفي)، وتعطي (النفس اللوّامة) مشروعيّتها لأخذ المبادرة دون انتظار أجهزة المتابعة لتكتشف الزّلل، وأجهزة السلطة لتنفِّذ العقوبة..!
(3)
** بين (تفسير) العالم و(تغييره) تنطلق الرؤى الفلسفيةُ ناعيةً على المؤرخين المتوقفين عند حدود تفسير الظاهرة إلى السعي - عبر الأدلجة الفكرية - إلى تغييره؛ وفي علم (الاجتماع المعرفيّ) -الذي يرى بعض الباحثين أن (كارل ماكس) هو رائدهُ وإن امتدّ بعده ليصبح منهجاً عاماً منفصلاً عن المدرسة الماركسية - محاولةٌ للتأثير على التاريخ، وقد أضاف (إميل دوركايم 1858 - 1917م) و(ماكس فيبر 1864 - 1920م) إلى هذا التوجه، وانطلق تلاميذُهما من الدراسات الكمية إلى الدراسات الكيفية، ومن (الماكرو/تاريخية) إلى (الميكرو/تاريخية) ومن التحليل البنيوي إلى السرد، ومن الشأن الاجتماعي إلى القضايا الثقافية، (ولمزيد من القراءة يراجع مقال: الرهان على العقل: بيان من أجل التاريخ/ للمؤرخ المعاصر: إيريك هوبسباوم - مجلة لوموند دبلوماتيك - كانون أول 2004م وقدمت له ترجمات ومستخلصات عربية، ومنها ما نشر في: مجلة الثقافة العالمية- أيار/حزيران 2006م)..
** وربما تقودُنا الإشارة المقتضبة هذه إلى (التخدير) الذي أركسنا فيه الاستسلام لحكايات التاريخ بوصفه منطلقاً لنمذجة الغد؛ فتجاوزْنا متعة القراءة، وتجاهلنا ضرورة التحليل، ورفضنا حتمية التغيير، وبتنا نرسمُ مساراتٍ محددةً يسلُكها الجميعُ؛ فإذا خرج أحدُنا على الخطّ أتاه من يقوّم اعوجاجه (المفترض) وفقاً لخارطة ذهنية مرسومةٍ لا يمكنُ الاستدارة على خطوطِها الإجبارية..!
** ولو جاءَ من أبنائنا من شاءَ الانضمامَ إلى حركةٍ مقاومةٍ أو جهادٍ (أو ما التبست تسمياتُه بفعلِ تشويه الإرهابيين) فلن يجد لدينا من يشبهُ (سارتر) في ترك الخيار أمامه لمنامٍ هنيئٍ يستيقظُ بعده وقد عزمَ أمره على المضي أو القعود، وسيكونُ بين مُحرِّضَيْن متضادين يمنحه أحدُهما الجنة ويهوي به الآخر إلى النار..! وهذا مثل ذقنا بسببه كثيراً من الآلام..!
(4)
** الاستقلالُ الفكري مطلبٌ نهضوي حاسم يبدأ من الرضاعة، ويكتملُ عند النضج، والتدخل المبكِّر في حياة الأطفال هو ما يجعلهم يحيدون عن الطريق، مما يتفق مع مفهوم الحديث الكريم حول أن تدخل الأبوين هو ما ينقل الطفل من الفطرة إلى التهويد أو التنصير أو التمجيس..! وسيظل الدور التربوي محصوراً في وضع معالم رئيسة أو خطوطٍ عريضة لمعايير الحق، ونظرياتِ الجمال، ومعالم الفضيلة، وملامح الأعراف، وتجذير الإيمان بالمبادئ الممثّلة في نماذج بشريةٍ رائدة تُستقى سيرتُهم من سلوكهم الخاص وليس فقط مِنْ سلوكهم المجتمعي الذي يتكيّف - لدى ثلل - وفقاً للمصالح والمطامح والمُعلن والخفي..!
** نحتاج إلى اعتياد حرية التفكير، وحرية المناقشة، وحرية التقرير دون الاصطدام بعائق (القمع) اتكاءً على عرفٍ وقتي، أو رأي شخصي، أو منهجٍ بشري، ويكفي أن نتفق على الثوابت الشرعية المجمع عليها بنصوصٍ قطعية ليصبح الدربُ - بعدها - ممتداً بمسافاتٍ للحركة، ومساحات للاقتناع أو الامتناع.. أما شحنُ الناس ضد منطقٍ مخالف، أو جمعهُم على رأي فقهي أو عادة متوارثة فقد أوقعنا في كثير من العِثار..!
(5)
** تبدو مشكلة الوصاية القسرية محبطةً لثلاثي: (الطفل/ المراهق/المرأة)، وتستطيل لتتجاوز النصائح اللفظية والشكلية إلى إضمار الظن السيئ، ورسم صورةٍ نمطية عن قصور عضوي ونفسي وعقلي؛ بوصف الطفل لا يعي، والمراهق لا يتزن، والمرأة لا تستقيم، أو على حدّ وصف (أرسطو) لها في كتابه (جيل من الحيوانات Generation Of Animals) بأنها تمثل نمطاً من أنماط القصور الطبيعي، امتد إلى الفكر الأوربي الوسيط الذي أكد أن المرأة تعاني من ثلاثية: الطيش، وضعف الحس الأخلاقي، وعدم القدرة على استيعاب المفاهيم المجردة..!
** دُفنت هذه الرؤى بوعي المجتمعات، ورسّخ منطق البحوث أن قمة الإبداع في عمر الإنسان هي عامه الرابع، كما أن من المراهقين (في التاريخ الإسلامي وغيره) نماذجَ قيادية استطاعتْ تغيير التاريخ لا مجرد تفسيره، والنساء شقائق الرجال في الإسلام، وأثبتت اختبارات الذكاء I.Q للعالم البريطاني (تشارلز سبيرمان) - التي أجراها عام 1918م- أن لا فوارق عقلية بين الجنسين، وقبلهم كانت المرأة -عبر التاريخ الإسلامي- ذات صيت وصوت..!
** سيظل ممارسو الوصاية أو عاشقو الاستنساخ غير منتبهين إلى أن أسلوبهم سيختصر الأمة في واحد، ويُكرّر الواحد في مئات وآلاف وملايين؛ فيبدو الرقم - مثلما الرمز - معضلة الانطلاق والانعتاق..!
(6)
** بتنا أمة (الأجوبة)، ونهضَ العالم الآخر (بالأسئلة)؛ وبينما نقفل أذهان شعوبنا بالمرجعية الشاملة التي تجيب عن كل استفهام، وتحلّ أيّ معضلة، وتتصدى لرياحِ التغيير والتطوير بالتقليد والمسايرة والمتابعة، يفتح الآخرون أمداء العقل أمام أطفالهم ويافعيهم ونسائِهم ورجالهم ليصنعوا بالتفكير ما عجزنا عن صنعه بالإملاء والتقرير..!
* الأسئلة لغةُ الحضارات..!

IBRTURKIA@Hotmail. com

 
جميع الحقوق محفوظة للشاعر منصور محمد دماس مذكور
1426/2006
الرئيسية ترجمة الشاعر عالم الشعر عالم النثر من ثمار الخير سجل الزوار راسلني